يوحنا الدمشقي: الراهب والفيلسوف الذي حاجج علماء المسلمين
يوحنا الدمشقي |
مقدمة
يوحنا الدمشقي، المعروف أيضًا باسم يوحنا ذهبي الفم بسبب فصاحته، كان شخصية محورية في تاريخ الكنيسة الشرقية والفكر المسيحي في القرن السابع الميلادي. وُلد في دمشق عام 676 ميلادية لعائلة مسيحية بارزة خدمت في بلاط الخلافة الأموية. شغل يوحنا نفسه منصبًا إداريًا رفيعًا في الدولة الأموية، إلا أن تحولاته الروحية والفكرية قادته إلى أن يصبح أحد أعظم علماء اللاهوت والفلاسفة في تاريخ المسيحية. يُعتبر يوحنا الدمشقي أحد آخر آباء الكنيسة الشرقية الذين شاركوا في تشكيل الإيمان المسيحي وبنية الكنيسة.
نشأة يوحنا الدمشقي
وُلد يوحنا الدمشقي باسم يوحنا منصور بن سيرجون، ونشأ في دمشق خلال فترة حكم الدولة الأموية، وهي حقبة كانت تتميز بالتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود. كانت عائلته من العائلات المسيحية الكبيرة، وكان والده وزيرًا في بلاط الخلافة الأموية، بينما شغل جده منصب رئيس ديوان الجباية المالية في عهد الإمبراطور هرقل. هذا الوضع الاجتماعي الرفيع أتاح ليوحنا أن ينال تعليمًا متميزًا في مجالات متعددة، بما في ذلك اللاهوت والفلسفة والعلوم الدينية الإسلامية.
على الرغم من حياته المهنية الناجحة في البلاط الأموي، اختار يوحنا في نهاية المطاف ترك منصبه الحكومي والانضمام إلى دير القديس سابا بالقرب من القدس. في هذا الدير، بدأ يوحنا رحلته الروحية والفكرية التي جعلته أحد أعظم علماء اللاهوت المسيحي في التاريخ. كتب العديد من الأعمال التي تناولت العقيدة المسيحية، والفلسفة، واللاهوت الدفاعي، وكان أشهرها كتاب "الهرطقات"، الذي قدم فيه دراسة نقدية لعدد من المعتقدات الدينية التي ظهرت بين القرن الأول والسابع الميلادي.
يوحنا الدمشقي ومناظراته مع علماء المسلمين
كانت الفترة التي عاش فيها يوحنا الدمشقي فترة توتر ديني وسياسي بين المسيحيين والمسلمين، خاصة بعد سيطرة المسلمين على الأراضي المسيحية التقليدية مثل الشام ومصر. ومع ذلك، تمكن يوحنا الدمشقي من التعايش مع المسلمين والتفاعل معهم في حوارات دينية وفلسفية. إحدى هذه المناظرات الشهيرة التي اشتهر بها يوحنا هي تلك التي جرت في بلاط الخليفة الأموي، حيث حاجج علماء المسلمين لإثبات ألوهية المسيح من خلال نصوص القرآن.
حجة يوحنا الدمشقي: ألوهية المسيح من القرآن
كانت حجة يوحنا الدمشقي في مناظرته مع علماء المسلمين تستند إلى فهم عميق لكل من القرآن والإنجيل. بدأ يوحنا حجاجه بسؤال علماء المسلمين عن القرآن إذا ما كان كلمة الله، وكان الرد بالإيجاب. ثم سألهم إذا ما كان المسيح (عيسى ابن مريم) هو كلمة الله، وأيضًا وافقوه الرأي. من هنا انطلق يوحنا ليطرح سؤاله المحوري: هل كلمة الله مخلوقة أم غير مخلوقة؟ أجاب العلماء بأن القرآن وكلمة الله غير مخلوقة، بمعنى أنها أزلية.
استنادًا إلى هذه الردود، قدم يوحنا حجته بأن المسيح، كونه كلمة الله، هو أيضًا غير مخلوق وأزلي. ومن ثم، بما أن الله وحده هو الأزلي وغير المخلوق، فإن المسيح يجب أن يكون هو الله الظاهر في الجسد. هذه الحجة التي اعتمدت على نصوص قرآنية مثل "إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ" (النساء: 171)، كانت تهدف إلى إثبات أن المسيح يستحق العبادة باعتباره الله.
الاستشهاد بالمعجزات
لم تقتصر حجج يوحنا الدمشقي على النصوص القرآنية فقط، بل امتدت لتشمل المعجزات التي قام بها المسيح والتي تُذكر في كل من القرآن والإنجيل. استشهد يوحنا بالمعجزات مثل إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وشفاء المرضى، مؤكدًا أن هذه الأفعال لا يمكن أن يقوم بها إلا الله نفسه. وفقًا ليوحنا، الله وحده هو الذي يملك القدرة على الخلق وإحياء الموتى، وبالتالي، فإن المسيح، الذي قام بهذه المعجزات، يجب أن يكون الله.
بالإضافة إلى ذلك، أشار يوحنا إلى معجزة ولادة المسيح من عذراء، معتبرًا أنها دليل آخر على ألوهية المسيح. وقال إن المسيح هو الوحيد الذي وُلد من عذراء، وهذا يميزه عن جميع البشر ويؤكد طبيعته الإلهية.
النبوءات من العهد القديم
كجزء من حججه، استشهد يوحنا بالنبوءات التي وردت في العهد القديم والتي تنبأت بمجيء المسيح. على سبيل المثال، استشهد بنبوءة إشعياء النبي التي تقول: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء 7:14)، موضحًا أن هذه النبوءة تشير إلى أن المسيح هو الله الذي سيأتي إلى العالم في صورة إنسان. وأيضًا استشهد بنبوءة أخرى من سفر إشعياء تقول: "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلها قديرًا أبا أبديًا رئيس السلام" (إشعياء 9:6)، مؤكدًا أن هذه النبوءة تعكس ألوهية المسيح بوضوح.
تأثير مناظرات يوحنا الدمشقي
مناظرات يوحنا الدمشقي كانت ذات تأثير كبير على الفكر الديني في عصره، وكانت تعكس قدرة المسيحيين على استخدام النصوص القرآنية لدعم عقيدتهم.
بالنسبة للمسلمين، يُعتبر المسيح نبيًا مرسلًا من الله وليس إلهًا. وبالرغم من احترامهم الكبير لشخص المسيح، فإن الإسلام ينكر فكرة ألوهيته أو كونه جزءًا من الثالوث المسيحي. لذا، كانت حجج يوحنا الدمشقي مثيرة للجدل من قِبل علماء المسلمين، لكنها بلا شك تعكس قدرة يوحنا على استخدام النصوص الإسلامية في سياق دفاعه عن الإيمان المسيحي.
الخاتمة
كان يوحنا الدمشقي شخصية استثنائية في التاريخ المسيحي، حيث جمع بين الفلسفة واللاهوت والدفاع عن الإيمان المسيحي. من خلال مناظراته مع علماء المسلمين، استخدم يوحنا الدمشقي نصوص القرآن ليقدم حججًا تؤكد ألوهية المسيح. رغم الجدل الذي أثارته هذه الحجج، إلا أنها تُظهر عمق فهمه للنصوص الدينية الإسلامية والمسيحية على حد سواء.
تعليقات: (0) إضافة تعليق